تقنية “كريسبر”
واصلاح الطفرات في الأجنة
الناس أعداء ما يجهلون هكذا الحال عند انتشار التلفون والراديو والسيارة وحتى الدراجة الهوائية. هكذا هو الحال مع تقنية قد تكون واعده اسمها (كريسبر) تم اكتشافها وبدأ الحديث عنها خلال السنوات الأخيرة (اكتشفت عام 2008م). بلا شك لكل امر في هذه الحياة منافع وله مضار وقد يساء استخدام أي شيء حتى السكين التي نقطع بها التفاحة فمن الممكن ان نقطع بها تفاحة وممكن أن تكون أداة قتل. هي كالميزان له كفتان والغالب أن كفتا الميزان ليست متساوية. عندما نرى الافاق الواعدة لاكتشاف تقنية كريسبر في علاج الكثير من الامراض الوراثية وغير الوراثية بل وحتى صناعة الدواء وتعجيل الأبحاث لاكتشاف ما هو خير للبشرية ويرى الاخرون المخاوف التي امامهم في أنه ممكن ان تستغل هذه التقنية في تغيير سلالة الانسان نعرف عندها لماذا هناك متخوفون واخرون مستبشرون.
تخيل أنك مصاب بمرض وراثي يسبب ضعف شديد في عضلة القلب، ويسبب الوفاة خلال الاربعينات من عمرك و العلاج هو زراعة القلب أو الوفاة لا قدر الله. تخيل أن هذا المرض لا يصيبك وحدك بل هو مرض يصيب شخص من كل 500 نسمة ! . تخيل أن هذا المرض كونه وراثي فقد يصيب ذريتك.فهناك احتمال إصابة 50% من ذريتك في كل مره تحمل فيها زوجتك؟! تخيل أن الأطباء اخبروك انه تكم اكتشاف طريقة لإصلاح العطب الوراثي في الجين المسبب للمرض قبل أن يولد طفلك ماذا سوف يكون ردت فعلك؟
في خطوة اثارت الاعلام – وهي ليست أول اثارة في موضوع كريسبر – قام العلماء في أمريكا بخطوة جريئة بمحاولة تجربة هذه التقنية لكي يثبتوا أنها فعلا ناجحة و في نفس الوقت يحاولوا ن يحسنوا من نتائجها ويكتشفوا المخاطر و من ثم يستعملوها لعلاج المرضى أو يستعملوها كطريقة وقائية من انتشار المرض.
نُشر في مجلة نيتشر بحث اجري في الولايات المتحدة الأمريكية على مريض مصاب بضعف عضلة القلب (عضلة القلب الضخامي) باستخدام مقص بيولوجي يسمى (تقنية كريسبر- كاسب 9 ) لإصلاح و إزالة طفرة في الجين المسبب لهذا المرض . فقد قام احد المصابين بهذا المرض في المشاركة في البحث و تم حقن 58 بويضة في المختبر يحيوان منوية من المريض و في نفس الوقت تم حقن المقص ( كريسبر – كاسب 9 ) معه قطعة للتوجيه و تحديد مكان الطفرة في داخل البويضة. و ثم بعدها انتظروا المقص بأداء مهمته تلقائيا حيث يتوقع ان تقوم قطعة التوجيه بتحديد مكان الطفرة و يتبعها المقص البيولوجي ، و عند وصولهم الى المكان المحدد فان المقص تلقائيا يقص مكان الطفرة، و هنا تنتهي مهمة المقص و في نفس الوقت تبدأ عملية الإصلاح التلقائي من داخل البويضة من نفسها حيث -أن الله سبحانه و تعالى – جعل هناك خاصية مغروزه في الحمض النووي لأصلا أي قص يحدث في الحمض النووي . و لكون المصاب لديه نسخة من الجين سليمة (لان المرض مرض وراثي سائد و هذا يعني أن المصاب لديه نسختان من الجينات احدها سليم و الاخر فيه طفرة مرضية) فان البويضة تستخدم النسخة السليمة لإصلاح (ترقيع) الخلل الذي احدثه المقص و عندما اصلاح مكان القص ،فإنه سوف يتم اصلاح الطفرة تلقائياً.
نجح المختصون في اصلاح 70% من البويضات بهذه التقنية واستمر انقسام البويضة الملقحة لبضع أيام قبل أن يتم إيقاف انقسامها وانهاء التجربة على هذه المرحلة لكونهم لا يستطيعوا الاستمرار بدون المزيد من الأبحاث لكي يضمنوا أن ما يقوموا به امر مضمون وليس فيه مضار أخرى لم تتضح بعد.
في هذا البحث استطاع العلماء ان يثبتوا أن هذه التقنية ناجحة الى حد كبير وفتحوا الباب للمزيد من البحوث لتأكيد نتائجهم. للمعلوميه هذا البحث ليس هو الأول الذي يجرى على الانسان و أن كان هو الأول في أمريكا ،لكن الصينيون منذ سنتين تقريبا نشروا بحث مشابه على بويضات تم تغييرها بتقنية كريسبرو عند اعلان ذلك البحث حدثت زوبعة إعلامية ضخمة في ذلك الوقت و تحدث الكثير عن مضار و فوائد هذه التقنية و تم عقد مؤتمر ضخم في بريطانيا بهذا الخصوص. كما انه ايضاً استعملت هذه التقنية السنة الماضية على مريض مصاب بسرطان متقدم في الرئة لإصلاح أحد الجينات لكي تقوم بعلاج المريض ذاتيا ونشر البحث بذلك الخصوص في المجلات العلمية.
مع أن تقنية كريسبر هذه مألوفة لدينا الا أن هناك تفهم للحديث الساخن حول اخلاقيات اصلاح الجينات بهذه التقنية من الاساس. يعتقد البعض أن “تحرير” أو اصلاح الجينات في نظر البعض تفتح باب لتغيير الجينات حتى و لو لم تكن مسببة لأمراض، كأن يتم التحكم في لون البشرة أو الشعر او الطول او الجمال أو غيرها من الأمور التي قد يراها البعض لا أخلاقية، أو أنها قد تفتح باب لاستعمالات ليس لها اطور صحية مما قد تسبب اضرار على البشرية على المدى الطويل .
العلماء المؤيدون لهذه التقنية بعد نشر هذا البحث استبشروا خيرا وانفرجت اساريرهم لما تقدمة هذه التقنية من حلول علاجية متوقعه للمرضى و إيقاف انتقالها من جيل لأخر و قد تقلل عدد المصابين في العالم ،و قد تفيد أيضا في استعمالها مع تقنيات أخرى مثل تقنية الفحص الوراثي قبل الغرز لتقليل عدد البويضات الملقحة التي يتم التخلص منها بسبب عدم ملائمتها للغرز بسبب وجود طفرات وراثية فيها. لكن الناقدون و الأكثر حذرا يعارضون هذه الأمور، فلديهم تحفظات أخلاقية حتى ولو تم تقديم بحوث ضامنه الى حد مقبول في أمور السلامة و الأمان فبعضهم يرى في الأصل أن لا نحاول أن نصلح أي شيء. هذه التقنيات الحديثة -كما هو الحال مع أي امر حديث و مستجد على البشرية – الحوار حوله و تبادل الرأي و النقاش حوله امر محمود مالم يبالغ في تضخيم أو تحجيم المخاوف أو المبالغة في الفائدة الحقيقة المتوقعه أو يقلل من أهميتها على مستوى المجتمع .يقول جورج أناس، مدير مركز القانون الصحي والأخلاق وحقوق الإنسان في كلية الصحة العامة بجامعة بوسطن، الذي “يعتقد” أنه لا ينبغي على العلماء تعديل الجينوم للأجنة البشرية لأي سبب من الأسباب، يقول “أنهم يريدون السيطرة على الطبيعة، لكنهم لا يستطيعون السيطرة على أنفسهم ” “They want to control nature, but they can’t control themselves.”
عضلة القلب الضخامي مرض منتشر كما ذكرنا في الكثير من الدول بنسب عليه و هو يسبب تضخم لعضلة القلب بشكل مرضي مما يسبب هبوط في القلب و اضطرابات في كهرباء القلب و يسبب الوفاة المفاجئة للكثير من المصابين. طفرة واحده في أحدى نسختي الجين كافيه لان تحدث المرض حتى و أن كان لدى المصاب نسخة أخرى سليمة من الجين. فاذا أصيب الشخص بهذا المرض فهناك احتمال في كل حمل تحمل فيها زوجته أن يصاب الجنين وهذه النسبة ليست بالقليلة بل هي 50%. لذلك قام الباحث الرئيسي ” شوخرات ميتاليبوف في مركز الخلايا الجينية و العلاج الجيني في جامعة ولاية أوريغون و زملاؤه باختيار الجين الأكثر انتشارا و المسبب لهذا المرض لإجراء بحثهم .
في البداية قاموا بتلقيح 58 بويضة سليمة بحيوان منوي من متبرع مريض بمرض عضلة القلب الضخامي و استخدموا مقص كريسبر لقص الطفرة من الجين في داخل البويضة. فتقنية كريسبر هي مقص حيوي (بيولوجي) تعمل على قص الحمض النووي ويتم تحديد مكان القص عن طريق إضافة قطعة موجهه معه وبعد القص تقوم الخلية ( البويضة) بإصلاح القص و وضع نسخة سليمة. هذه التقنية لا تنجح دائماً فبعض الاجنة التي جربت عليها هذه التقنية ينتج عنها اجنه لديها خلايا سليمة و أخرى مازال فيها الخلل و هذا ما يعرف علميا بالخلايا المتعددة (الفسيفسائية) . ولذلك قام العلماء في البحث الحالي بحقن الحيوان المنوي ومواد كريسبر في فآن واحد في البويضة ،وليس كما كان يعمل سابقاً حيث كانوا يحقنون الحيوان المنوي ثم بعدها يحقنوا مواد كريسبر. فنجحوا في مهمتهم في 42 بويضة و تم اصلاح الطفرة كما انهم لم يكتشفوا أي مضار او تغييرات على الجينات الأخرى في هذه التجربة. و هم سمحوا بانقسام البويضة بعد ذلك خلال سبعة أيام حيث يستلزم بعدها غرز البويضة الملقحة في الرحم و الا ماتت لكنهم توقفوا عند هذه المرحلة و لم يغرزوها انتظارا لمزيد من الأبحاث ليتأكدوا أن الامر ليس فيه مخاطر أخرى.
للمزيد عن تقنية كريسبر راجع مقالي التفصيلي في هذا الرابط
تقنية “كريسبر”.. ثورة في الهندسة الوراثية لإصلاح الطفرات المسببة للأمراض الوراثية
تأليف:
عبدالرحمن فايز السويد
استشاري الوراثة الإكلينيكية وطب الأطفال
مدينة الملك عبدالعزيز الطبية بالحرس الوطني-الرياض
4 اغسطس 2017
You must be logged in to post a comment.