هل السرطان مرض وراثي؟
قصة انجلينا جولي و سيجارة تشرشل
لقراءة المقال على شكل بي دي اف اضغط هنا
قبل أن تبدأ أو تنهي قراءة هذا المقال سوف أجيبك على التساؤل مباشرة. السرطان لا يعتبر مرضًا متوارثًا في معظم الحالات أي أنه في الغالب لا ينتقل من جيل إلى جيل. لكن هناك تفاصيل إن أحببت أن تسمعها فاقرأ المقال بالكامل وقد يتسع بعدها أفق تفكيرك في كثير من أمور السرطان والوراثة.
أنجلينا جولي اسم حلق بشهرته الفنية وزادها تألقًا ظهورها الإعلامي المتكرر في مواقع إنسانية في بقاع متفرقة من العالم فأعطاها قربًا أكبر لقلوب الكثير من الناس. لكن شهرتها تجاوزت عنان السماء بعد ما كتبت في صحيفة لنيويورك تايمز عن اتخاذها لقرار طبي انتهت أحداثه في ابريل 2013 لم يسبق أن أعلنه أحد من المشاهير طواعيتاً. أعلنت أنها استأصلت ثدييها بشكل وقائي وهي في منتصف عمرها (37 عام) بعد أن فكرت مليًا في مستقبلها ومصيرها. بالتأكيد لم يكن لامرأة جميلة ولا حتى لأي امرأة أن تستأصل جزءًا غاليًا من جسدها دون أن يكون هناك أسباب اضطرارية. كان قرارها بناءً على معلومة طبية بعد إجراء فحوصات وراثية لها حيث كشف الفحص أن مستقبلها يتكبده خطورة تصل إلى 87% لإصابتها بسرطان الثدي فيما تبقى من عمرها وهناك أيضًا احتمال 50% في أصابتها بسرطان بالمبيض. هذه النسب هي ما نشر في الإعلام. كتبت أنجلينا في الصحيفة “حين علمت بالواقع قررت أن أكون إيجابية وأن أقلص الخطر إلى أقل درجة ممكنة. واتخذت قرار استئصال الثديين كإجراء وقائي.” نعم أجرت العملية وخفضت بذلك احتمال إصابتها بسرطان الثدي إلى حوالي 2%. كانت أنجلينا تحمل طفرةً (عطبًا) في أحد الجينات المشهورة المرتبطة بسرطان الثدي الوراثي والمسمى “بي آر سي 1″ أو بالكلمة المختصرة ” براكا واحد “. كان خيال أمها و وفاتها بسرطان المبيض في سن مبكر (56 عامًا) عالقًا أمام عينيها ولا تزال تتذكر كم عانت في أواخر حياتها من ذلك المرض وللمعلومية خالتها أيضًا توفيت (بعمر 61 عامًا) بعد أسبوعين من إعلان أنجلينا خبر استئصالها لثدييها. كانت هذه الحقائق والذكريات أشد وقعًا عليها وأكثر ألمًا وحسرةً من أن تتخذ قرارًا مصيريًا يتعلق بجسدها، خاصة عندما تتذكر أطفالها الستة (بعضهم بالتبني) وخوفها من أن يفقدوا أمهم في سن مبكر. استأصلتهما قبل أن تصاب بالسرطان وقامت بعمليات تجميلية بديلة عنهما. أوضحت أنجلينا أن إعلانها لقرارها هذا هو لكي تساعد في تبديد الغموض الذي لا يزال يحيط بالسرطان وتشجع النساء على إجراء فحوصات واتخاذ قرارات علاجية قائمة على المعرفة حيث قالت:” اخترت ألا أبقي قصتي في السر، لأن هناك العديد من النساء اللواتي لا يعلمن أنهن يعشن خطر الإصابة بسرطان الثدي. كل أملي بأن تستطيع تلك النسوة أيضًا القيام بفحص للجينات لاكتشاف الأمر.” انتشر الخبر وبدأ فعلًا الحديث عن عمل فحوصات جينية للسرطان وأصبحت كلمة وراثة ترن في آذان الجميع وأصبح الحديث أكثر علميًا وأقل انفعاليًا عندما يطرح السؤال على رجل أو امرأة من قبل الطبيب: “هل تود أن نقوم بفحص لجيناتك لكي نعرف هل مرضك وراثي أم لا؟ “. لكن هذا الخبر لم يضع المعلومات الطبية بشكل واضح للجميع ولم يعرف أكثر الناس هل السرطان فعلًا مرض وراثي ؟
خبر أنجلينا وقصتها مع استئصالها الوقائي له جوانب علمية تتجاوز الحديث الانفعالي والعاطفي للقصة. فقد ظهرت عدة تعليقات علمية ومقالات وآراء من بعض المختصين. فمنهم من حاول أن يطمئن النساء والمجتمع أن القضية يجب ألا ترعب الجميع “فلا تخافوا ولا تحزنوا” فالأرقام مبالغ فيها والمخاطر ليست بتلك الدقة واحتمال إصابتها ليس 87% بل هي حقيقة 56%! وهناك من ركب الموجه لكي يزيد من الوعي الصحي بقضية السرطان لعله يوازن الكفة ويقلل من تجاهل الناس (بقصد أو عن غير قصد) لبعض الحقائق الطبية الوراثية حول السرطان. الرأي الذي أحبذه هو أن نضع الأمور في مواضعها الصحيحة بدون مبالغة ولا تهميش. الحقيقة أن السرطان هو السبب الثاني للوفاة في البالغين بعد أمراض القلب. وسرطان الثدي هو ثاني أكثر السرطانات شيوعًا على مستوى العالم بعد سرطان الرئة وهو السرطان الأول لدى النساء.
يمثل سرطان الثدي تقريبا (25%) من حالات السرطان المشخصة في النساء في السعودية و16% في عُمان و35% في البحرين. والسرطان بشكل عام يصيب تقريبا 75 لكل 100 ألف في دول الخليج وهذه النسب أقل من الدول الغربية لكن من المتوقع أن تقترب هذه الأرقام من النسب الغربية مع التمدن واكتساب عادات وسلوكيات غربية. سرطان الثدي في الدول المتقدمة أعلى من الدول النامية بخمسة أضعاف ولكن المقلق هو أن نصف النساء المشخصات بسرطان الثدي في السعودية أعمارهن أقل من 50 سنة و25% منهن أقل من 40 سنة، مقارنة بالغرب حيث ثلثي من يصبن هن فوق سن 50 سنة ومن أعمارهن أقل من 40 سنة لا يمثل إلا 6%. الأرقام توحي أن هناك مجموعة من النساء بالسعودية يصبن بسرطان الثدي في سن مبكر. إذًا لنا الحق في طرح السؤال بصوت عالٍ: هل هناك عوامل وراثية للسرطان في السعودية؟
أذكر خلال فترة الدراسة في كلية الطب في أواسط الثمانينات الميلادية زيارتنا للمستشفى المركزي بمدينة الرياض وهو من أكبر المستشفيات العلاجية ويعرف باسم دارج على جميع الألسنة وهو مستشفى “الشميسي”. من الملفت للانتباه أن هذا الاسم لم يستطع أحد أن يغيره على الرغم من أن اسم المستشفى تم تغييره فعليًا عدة مرات وفي كل مرة تبوء المحاولة بالفشل بل كلها عززت الاسم القديم. كنت اقول كنا مجموعة من طلاب الطب بصحبة أحد المشرفين من قسم الجراحة ولا زلت أذكر تلك المرأة الثلاثينية التي مررنا عليها وهي في فراشها حيث كانت مصابة بسرطان الثدي في كلتا الجهتين. مازال خيالها عالقًا أمامي وأنا أتساءل وأتفكر عن سبب إصابة أنثى في مقتبل العمر بسرطان في الغالب لا يصيب إلا من تقدم بها العمر! هل تعرضت لمواد مشعة نووية؟ هل تناولت أعشابًا مسرطنةً. هل؟ وهل؟ وهل؟ طبعًا لم نعلم في ذلك الوقت السبب ولا أعلم مصير تلك المرأة بعد أن غادرنا غرفتها، أسأل الله لها العمر المديد إن كانت من الأحياء أو الرحمة الواسعة إن كانت ممن سبقنا إلى الجنة. لم يكتشف في ذلك الوقت أي جين أو مورث مسبب لسرطان الثدي ولكن توالت القصص بعدها وأصبحنا نشاهد ونسمع عن قصص لسرطان الثدي بأعمار مبكرة في كل العالم بل حتى في الخليج والعالم العربي.
هل جين سرطان الثدي الوراثي الذي أصيبت به أنجلينا جولي وهو براكا واحد أو حتى الجين الآخر رقم اثنين (براكا اثنين) هو المسبب لسرطان الثدي في سن مبكر للسعوديات وأيضًا نساء الخليج والعالم العربي؟ جوابي: لا أتوقع ذلك! فمن ملاحظتنا أن من قمن بفحص هذين الجينين من السعوديات المصابات أكثرهن ظهرت فحوصاتهن سليمة وكذلك هناك بحث حديث نشر السنة الماضية 2013 يؤكد أيضًا هذه الملاحظات. فبحسب هذا البحث لم يظهر هناك رابط قوي لهذين الجينين وسرطان الثدي بالسعودية. للمعلومية براكا واحد هو الجين المسبب لسرطان الثدي في ثلث المصابات بسرطان الثدي بسن مبكر وبراكا اثنين يسبب عشره بالمئة من الحالات. هل يعني ذلك أن السرطان في السعودية ليس وراثي؟ الجواب أيضًا لا!
توفي والدي وعمي رحمهما الله وقد تجاوز كل منهما السبعين والثمانين عامًا ولم يصابا بأي نوع من السرطان رغم أنهما كانا من المدخنين بشراهة. توفي كذلك ونستون تشرشل -القائد الانجليزي الشهير في التسعينات من عمره وهو من المدخنين بشراهة فلا تكاد تراه في ظهور عام إلا والسيجارة في فمه -ولم يصب بأي نوع من السرطان. لا أحد يجادل بأن هناك علاقة قوية بين التدخين وأنواع مختلفة من السرطانات خاصة سرطان الرئة. لكن يا ترى لماذا يصاب بعض المدخنين بالسرطان في سن مبكر ولا يصاب آخرون به إطلاقًا؟ الجواب باختصار هو الاستعداد الجيني (الوراثي)، فالبعض لديه استعداد وراثي أكبر من غيره للإصابة وآخرين لديهم استعداد أقل. هكذا الحال لجميع أنواع السرطانات بشكل عام والتي ليس لها عامل وراثي صافي أو التي لا تنتقل بما يعرف طبيًا بالوراثة الجينية الوحيدة والتي تكون ناتجة عن خلل في أحد الجينات التي تتحكم بانقسام الخلية ونموها. والرسالة التي ننبه عليها هي أن ينتبه ويحذر من أصيب أحد من أفراد أسرته بأنواع من السرطان أو حتى لو لم يصب أحد أن يتجنب كل العوامل البيئية التي من الممكن أن تزيد احتمالية الإصابة بالسرطان.
السرطان بشكل عام هو من الأمراض المتعددة الأسباب وباختصار كل إنسان لديه استعداد وراثي (جيني) بأن يصاب بالسرطان ولكن لا نصاب به إلا إذا تعرضنا إلى ظروف “بيئية” معينة. الاستعداد الوراثي متفاوت بين الناس فبعض الأشخاص أو بعض الأسر يكون لديها استعداد أعلى من غيرها للإصابة، وقد يصل هذا الاستعداد إلى نسبب تتجاوز 50% خلال حياتهم والعامل الوراثي في هذه الأسر أقوى من العامل البيئي. وهناك أشخاص آخرين قد يكون استعدادهم الوراثي متدنٍ جدًا فهم حتى ولو تعرضوا للظروف البيئية المسرطنة لا يصابون بالسرطان! لا تتجاوز الأسباب الجينية المعروفة لسرطان الثدي الوراثي عن 5 إلى 8% من كل الحالات. ومعظم الأسباب الوراثية (الجينية) وحتى البيئية للسرطان بما فيها سرطان الثدي ليست معروفة كلها بل القليل منها معروف. ولكن في كل يوم يتم اكتشاف جين جديد يزيد أو يقلل من احتمال الإصابة بالسرطان وأيضًا كل يوم تطالعنا الصحف عن خبر غير وراثي “أسباب بيئية” عن علاقة مادة معينة أو سلوك أو عادة ما نقوم بها في حياتنا ترفع من خطورة إصابتنا بالسرطان أو تقلله كان ذلك في المأكل أو المشرب أو ما يحيط بنا من ملوثات. إن المدنية لها ضريبتها حتى على صحتنا، وليس هناك مناص من أن لا نستمع لإرشادات المختصين ونتبع العادات الصحية السليمة على مستوى الأفراد والمجتمع والدولة وهذا ما نقصده عندما نتحدث عن الوقاية. نحن لا نستطيع أن نغير جيناتنا ولا أن نبدل أو ننقص استعدادنا الوراثي على الأقل على مستوى الجيل. لكن علينا أن نعمل بالأسباب ونبحث إذا ما كان لدينا استعداد وراثي أكثر من غيرنا للإصابة بالسرطان وذلك بالسؤال عن شجرة الأسرة والسؤال عن أسباب السرطان في الأقارب ومن ثم نحرص بشكل أكبر على تجنب وتفادي العوامل البيئية المضرة فهي التي نستطيع أن نغيرها وقد نقوم أيضًا بخطوات صحية أخرى مثل عمل فحوصات دورية إما بأنفسنا (كالفحص الذاتي للثدي مثلًا) أو من قبل الاطباء للكشف عن الأورام في أيامها الأولى وقبل أن تصبح ورمًا سرطانيًا ومن ثم يتم علاجها مبكرًا، وقد يقوم بعضنا ممن لديهم احتمالات عالية للإصابة مثل أنجلينا بعمل خطوات وقائية أكثر صرامة.
ذات يوم دخلت إحدى الأمهات مع ابنها ذي السنوات العشر بعد أن أرسلها إلينا في عيادة الوراثة الجراح المعالج لابنها والذي اكتشف أن أمعاءه ممتلئة بالزوائد اللحمية (وهي نوع من الأورام الحميدة) وتم استئصال الأمعاء له ومن ثم أُرسل إلينا. تلك الأم لم تعرف أن مرض ابنها هو مرض وراثي نادر يزيد من احتمال حدوث الأورام والسرطان، كانت مصدومة بشكل كبير حتى أنها لم ترجع لنا مرة أخرى لكي نتابع الفحوصات الوراثية ولكي يتم فحص جميع أفراد الأسرة. اذكر ونحن نجمع المعلومات عن بقية أفراد الأسرة أن زوجها أيضًا لديه ورم في أمعائه وسبق له أن تعالج في الخارج. كان واضحًا لنا أن هذا الرجل لديه خلل جيني انتقل منه إلى ابنه. لم تكن الأم تعلم بكل هذه المعلومات وللأسف هو لم يبلغ أحدًا بذلك والأشد صعوبة هو أنه تزوج مرتين وأنجب الأطفال ولكن لم يقم بأي شيء تجاههم بهذا الخصوص. أتذكر أني كنت آخذ شجرة العائلة من الأب بالهاتف وأمامي تلك الأم المصدومة تستمع إلى ما يقوله زوجها. هو لم يكلف نفسه حتى بالحضور للعيادة. للأسف بقية أفراد الأسرة لديها خطورة وعليها أن تفحص وتتبع الفحوصات الدورية للكشف المبكر عن الأورام لكن لم يتم عمل أي شيء من ذلك ولا اعتقد أن أحدًا سوف يقوم بها في المستقبل فالأم حائرة ومترددة من هول الخبر، ولم تستطع أن تتعامل مع الواقع، وفضلت الهروب لعل الله يحفظها وأولادها جميعًا ويطمئن قلبها. الخطوات الصحيحة في مثل هذه الحالات هي أن يتم فحص الأب وكشف الجين المسبب للمرض ثم عمل فحص شامل للجميع ومن يوجد لديه نفس الخلل في الجين عليه أن يخضع لفحوصات دورية وقد يتخللها علاج وقائي كما حدث لأنجلينا جولي فيستأصل الأمعاء في سن مبكر قبل أن يُصاب بالسرطان. هي حالات قليلة لكنها تعطي إشارات أن بعض أنواع السرطان فعلًا لها عامل وراثي قوي ولكن في نفس الوقت معظم حالات السرطان ناتجة عن خليط من الاستعداد الوراثي والتعرض لشيء ما في البيئة كان ذلك في مشربنا أو مأكلنا أو في الهواء الذي نستنشقه أو في الفضاء أو حتى الجراثيم والفيروسات التي تصيبنا.
في إحدى المرات طلب طبيب أمراض الدم للأطفال استشارة وراثية لطفل في عنبر الأورام فذهبنا مع بقية الفريق الطبي للكشف على الطفل ذو الأربعة أعوام. كانت لديه مشاكل خلقية في بعض الأجزاء من جسمه مع صغر في حجم الرأس وبنية نحيفة وتأخر في المهارات وقد أصيب الآن بنوع نادر من أنواع اللوكيميا (سرطان الدم). عند تفحصنا لتفاصيل شجرة العائلة تبين لنا أيضًا أن هناك طفل آخر لتلك الأسرة كانت لديه مشاكل خلقية وتوفي نتيجة فقر دم شديد وفشل في نخاع العظم في أحد المدن في السعودية. على ما أذكر أيضًا هناك إحدى الجدات توفيت كذلك بسرطان في الثدي. وافقت الأم على عمل الفحوصات الوراثية وهي غير مقتنعة بما نقوم به. علمنا لاحقًا أن الطفل توفاه الله نسأل الله أن يتقبله شفيعًا لوالديه. حضر الأبوان بعد عدة أشهر إلى عيادة الوراثية للاطلاع على نتائج الفحص. أظهر الفحص أن الطفل فعلًا لديه طفرة في نفس الجين الذي أصيبت به أنجلينا جولي لكن ليس رقم واحد بل رقم اثنين (براكا اثنين). ما علاقة هذا الجين المعروف بأنه يسبب سرطان الثدي بالطفل الذي لديه سرطان الدم؟! اكتشف الأطباء لاحقًا أن هذا الجين المسبب لسرطان الثدي أيضًا يسبب مرضًا آخر يسمى بمرض فانكوني وهذا المرض مرض وراثي يحدث نتيجة لخلل في مجموعة من الجينات أحدهم جين براكا اثنين. كان الأبوان يحملان هذا الجين أي أن كلاهما لديه خلل في جين براكا اثنين فحصل الطفل على نسختين مصابتين من كلا أبويه فأصيب الطفل بمرض فانكوني ومشاكل خلقية ومع الوقت أصيب بسرطان الدم. حاولنا أن نوضح للأبوين هذه الحقيقة لكن للأسف فشلت كل مساعينا. فالأم مقتنعة أن ما أصاب أطفالها هو “عين” والسبب ليس وراثي وأخذت تحاول أن تفند كل كلامنا بل لم تكترث بالاستماع ما نقوله مع أن الفحوصات الوراثية أمامنا وهي نتائج نهائية وليس فيها احتمالات أخرى. المقلق أن كلا الزوجين لديه استعداد وراثي للإصابة بالسرطان فالأم لديها احتمال يصل إلى 30% للإصابة بسرطان الثدي والأب لديه نسبة تزيد عن 15% للإصابة بسرطان البروستاتا. كان الأبوان أبناء عمومة وهذا يعني أن هذا الجين المعطوب أتى من آبائهم وقد يكون هناك من الأحفاد من لديه نفس الخطورة للإصابة بسرطان الثدي او البروستاتا وأيضا المرض الوراثي فانكوني. غادر الأبوان العيادة ورجعا إلى مدينتهما وهم مقتنعان بأن الأمر “قضاء وقدر” وليس هناك أسباب وراثية، وكأنهم لا يعلمون أن الله في قضاءه وقدره له حكمة وله قوانين وحسابات دقيقة قد نجهل الكثير منها ولكن لا يعني هذا أن ما يحدث من حولنا هو أمور عشوائية ليس لها قانون أو نظام. غادرا وكلنا أمل أن يستمعا لكلام أطباء الاورام في الزيارة القادمة فيسمعا الحقيقة مرة أخرى لعل إعادة الكلام من أكثر من طبيب تؤتي ثمارها. كنا نتمنى أن تفيدهما هذه المعلومة وتفيد بقية أقاربهما فيحتاطا بالمتابعة وبالفحوصات الدورية للكشف المبكر لعل الله أن يحفظهما من كل الشرور.
هذه حالات نادرة وكما ذكرنا الغالب أن السرطان ليس وراثي بشكل كامل. ولم تكتشف جميع الجينات المسببة للأورام لكن ظهر حديثًا فحوصات وراثية تفحص دفعة واحدة عشرات الجينات المرتبطة بالأورام وتعطيك نتائج الفحص نسبة خطورة إصابتك بالسرطان خلال حياتك. ننصح كل من أصيب شخص أو أكثر في عائلته خاصة في سن مبكر أن يقوم بإجرائها ثم عمل الفحوصات الدورية لتجنب الإصابة إن أمكن واكتشافها في أوقات مبكرة، فنسبة نجاح علاج الأورام عالية عندما تكتشف مبكرًا.
الأخبار الجيدة في هذا الامر هو ان القيام بهذه الفحوصات في الأسر التي لديها استعداد وراثي اكبر من المعتاد سوف يزيد من فرصة اكتشاف الاصابة في وقت مبكر و قد تجعله يحرص اكثر من غيره في اتباع نصائح الأطباء بالفحص الذاتي او زيارة الطبيب عند اشك بدون ـأخير خاصة اننا نعلم ان 50% ممن شخص اصابته بالسرطان في دول الخليج حضر في وقت مـتأخر مقارنة بالدول المتقدمة.
لقد زارتنا امرأة سعودية خلال الاشهر الماضية في منتصف عمرها مصابة بسرطان الثدي وقد اصيبت اختها كذلك بسرطان في المبيض وكانت ترغب في عمل الفحص الوراثي و كان هدفها من الفحص هو الوصول لسبب الاصابة لعله يفيد بقية اسرتها في الوقاية او علاج في المستقبل وفي وقت مبكر لعله يزيد من فرص الشفاء وقد تم اكتشاف الجين المسبب لديها و التنسيق جاري في عمل الخطوات التالية .نسأل الله لها و لجميع المرضى الشفاء العاجل و ان يحمي الجميع من كل الشرور .
أمور من المهم تذكرها:
– معظم حالات السرطان تحدث بشكل عشوائي وليست بالضرورة متوارثة. فمثلا 5 إلى 8% من حالات سرطان الثدي أسبابها وراثية. كذلك سرطان الثدي يصيب 12% من النساء فلذلك لا يوصى حاليًا أن يقوم الجميع بعمل فحص للجينات.
– كون معظم الرجال والنساء لا يحتاجون إلى فحوصات جينية للكشف عن خطورة إصابتهم بالسرطان لا تعني أن هناك فئة عليها أن تقوم بهذه الفحوصات. فإذا أصيب أحد أفراد الأسرة بسرطان في سن مبكر أو ظهر أكثر من شخص مصاب بنفس نوع السرطان من الأفضل القيام بفحوصات وراثية للكشف عن احتمالية الإصابة. ويفضل أن يجرى الفحص على المصاب بالسرطان أولًا لسهولة كشف السبب الوراثي لديه إن وجد ثم يعمم الفحص على الجميع أو على من يريد القيام به.
– بعض الشعوب والأعراق لديها نسبة أعلى من غيرها للإصابة بأنواع من السرطان لذلك يُنصح بأن يعمل هؤلاء فحصًا اختياريًا للجينات. إلى الآن لم يتضح هذا الأمر في الشعوب العربية لكن لو ظهرت فئة معينة لديها احتمال أعلى من غيرها للإصابة فإن هذه النصيحة تشملهم.
– ليس كل من لديه جين يسبب السرطان سوف يصاب تلقائيًا بالسرطان. هي بالتأكيد تزيد احتمالية الإصابة لكنها أبدًا لا تصل إلى 100% والأقرب أنها حوالي 40 إلى 60% في أسوء الأحوال وقد تزيد أو تقل النسبة حسب عدد الأفراد الذين أصيبوا سابقًا بالسرطان في الأسرة.
– هناك حقيقة مهمة وهي أن الفحوصات الوراثية ما زالت مكلفة فهي بالمعدل لا تقل عن ألفي دولار للفحص الواحد. وهذا يجعلها مختلفة عن الفحوصات التي نقوم بها وتكلف بضعة دولارات فقط.
– أمر آخر، وبغض النظر عن التكلفة المادية، قبل أن تقوم بالفحص الوراثي، عليك التفكير بما ستقوم به بعد ظهور النتائج لو كانت لا قدّر الله إيجابية. هل اختياراتك مفتوحة أم أن هناك أمورًا سوف ترفض القيام بها حتى لو كانت النتائج واضحة؟ سواء كان ذلك في الفحص الدوري المبكر أو العلاجات الوقائية؟
– حقيقة أخيرة يجب ألا نغفل عنها وذكرناها سابقًا هي كون العوامل الوراثية لا نستطيع أن نغيرها فإن هناك أسبابًا بيئية غير وراثية هي في متناول أيدينا وتقلل من احتمالية إصابتنا بالسرطان سواء كان ذلك في تناول المزيد من الخضار والفواكه وبعض الفيتامينات أو الرياضة أو تجنب السمنة والأغذية الغنية بالدهون والبروتينات. ولا ننسى آفة العصر رقم واحد وهو التدخين والشيشة وعلاقتها بالسرطان وانتشاره بين النساء بعد أن سبقهم الرجال إليه وكذلك الكحوليات.
د. عبد الرحمن فايز السويد
استشاري الوراثة الإكلينيكية وطب الأطفال
مدينة الملك عبد العزيز الطبية بالحرس الوطني بالرياض
17 مارس 2014
You must be logged in to post a comment.