تقنية “كريسبر”..
ثورة في الهندسة الوراثية لإصلاح الطفرات المسببة للأمراض الوراثية
كريسبر تقنية قد تغير مستقبل الطب فهي اكتشاف مذهل لنظام حيوي موجود في البكتيريا كجهاز للمناعة يقوم بتدمير الفيروسات. هذا الاكتشاف لم يتصور انه سيحدث ثورة في الهندسة الوراثية ويختصر الساعات الطوال من العمل في المختبرات ويقلل التكاليف المالية الباهظة في السابق ناهيك عن سهولة الحصول عليه. هذه التقنية هي جهاز قابل للبرمجة للقص الحمض النووي بشكل دقيق ومن ثم إصلاح الطفرات.
الهندسة الوراثية التي بدأت في السبعينات الميلادية والتي نتج عنها الثورة المعلوماتية في علم الوراثة والذي غير وجه الطب و له دور في التطور العلمي و البحوث على الحيوان والنبات و الانسان بكل الاشكال كانت تشخيصية او علاجية. تبعها صناعة ادوية متطورة و انتاج فصائل من الحيوان المصابة بأمراض وراثية لإجراء البحوث عليها لعلاج الانسان. هذه الأمور الهندسية معقدة و تأخذ الكثير من الجهد و المال و الوقت فهي تأخذ الأشهر والسنوات لتعديل جين معين او احداث طفره فيه . بل قد تأخذ مرحلة دراسية كاملة لطالب ماجستير او دكتوراه و لعدت سنوات لكي ينشر بحثه. الان ومع تقنية كريسبر أصبحت الأشهر و السنوات بضعه أيام!
كيف تم الاكتشاف! 
في علم 1987 لاحظ علماء من اليابان و جود أجزاء غريبة بداخل الحمض النووي لنوع معين من البكتيريا. كانت عبارة عن مقاطع مكررة عدت مرات و بينها فواصل ثابته. لم يعرف العلماء تفسير لما شاهدوه .و مع تطور علم الوراثة الجزيئية و قيام العلماء بقراءة شفرات الحمض النووي للعديد من الكائنات لاحظ العلماء في عام 2002 ان هذه الأجزاء الغريبة التي تحدث عنها العلماء اليابانيون موجوده في أنواع عديدة من البكتيريا و اطلق عليها احد العلماء الهولنديين اسم طويل يصعب حتى نطقه و كتابته! اسموها:
“Clustered Regularly Interspaced Short Palindromic Repeats,”
و تختصر باسم كريسبر CRISPR
لاحظ هذا العالم الهولندي ان بجوار هذه الأجزاء الغريبة من الحمض النووي جين اخر لصناعة انزيمات فأطلق عليه “البروتين المرتبط بكريسبر” (Cas) لقربه و ارتباط بهذه الأجزاء. كالعادة الاكتشافات البيولوجية سريعة و لكن تفسير هذه الاكتشافات و ماذا تعني تأخذ وقت طويل .في عام 2005م قام ثلاث فرق مختلفة من علماء البيوانفورمتك ( مختصون في استعمال تقنية الحاسب الالي في حل معضلات علم الاحياء ) بنشر ثلاث ابحاث متشابهه و حلوا لغز هذه الأجزاء الغريبة .لقد فجروا قنبلة “صغيرة” باكتشافهم ان هذه الأجزاء هي عبارة عن أجزاء من فيروسات معاديه للبكتيريا قامت البكتيريا بنسخها و إدخالها في شفرتها الوراثية لكي تستعملها كجهاز مناعي للتعرف على الفيروسات عندما تغزوها مره أخرى فتقوم بتدميرها!
لم يعرف تبعات هذا الاكتشاف و كان الامر الى هذه المرحلة امرا غير مثير فاكتشاف نظام مناعي للجراثيم قد يكون امرا يهم المختصين بالبكتيريا و الجراثيم و ليس ذا أهمية بالنسبة للإنسان مباشرة. لكن في عام 2011 و بالتعاون بين عالمتين في العلوم، واحده تعمل في كاليفورنيا بأمريكا (جنيفر دودنا) و هي مهتمة بعلم الكيمياء خاصة بما يعرف ب ” الأر أن أي” (RNA) و أخرى تعمل في المانيا و هي من أصول فرنسية ( امانويل شاربتنتغير ) و هي مهتمة بعلم الجراثيم ( الميكروبيولوجي ).كونت هاتين العالمتين فريق لإجراء أبحاث إضافية على هذا النظام المناعي . وقاما بخطوه فجرت القنبلة “الكبيرة” حيث صمما في المختبر نسخة صناعية مشابهه للنظم الموجود بالبكتيريا وعملوا تجارب على هذا نسختهم هذه و اكتشفوا قدرت هذا النظام الخارقة في قص و قطع الحمض النووي بأماكن تم تحديدها مسبقاً.
عندما نُشر بحثهم هذا في عام 2012، قام العديد من العلماء بعمل تجارب وحاولوا الاستفادة من هذا الاكتشاف بعدها توالت الأفكار والتخيلات وانفتح امام العلماء علم جديد يعتمد على تقنية بسيطة وسهله بتكلفه مالية قليلة ولا يقل أهمية عن اكتشافات تقنيات في علم الهندسة الوراثية مثل البي سي أر وتقنية قراءة تسلسل الحمض النووي وغيرها. لقد أصبح الحديث عن علاج الأمراض الوراثية امرا ممكننا بعد ان كان مستعصياً وصعباً، بلا شك هي خطوة أولى في طريق جديد ومجال خصب ومشرق قد يغير وجه الطب مره أخرى كما حدث في السبعينيات.
كريسبر كجهاز مناعة في البكتيريا
مقدمة:
قبل ان نشرح جهاز المناعة هذا علينا ان نراجع سريعا بعض المصطلحات في علم الوراثة والتي قد يتكرر ذكرها لاحقا /وهذه مصطلحات تستعمل على مستوى علم الجراثيم والحيوان و النبات و الانسان.
نحن نعلم ان الانسان مخلوق من العديد من الخلايا و بداخلها المادة الوراثية (بداخل نواة الخلية). المادة الوراثية عبارة عن سلسلة طويلة من الحروف ( 4 أنواع مختلفة من الاحماض النووية )المتراصة . هذه السلسلة تسمى سلسلة الحمض النووي (دي إن أي) . كل ثلاث “حروف” من هذه الاحماض تكون” كلمة “، ويوجد 20 نوع من هذه الكلمات في كل خلية. تقوم الخلية بترتيب هذه الكلمات بشكل محدد لكي تكون “جمل” مختلفة. وهذه الجمل قد تكون مادة مثل الانسولين أو انزيم مهم لبناء عضله او عضو من الأعضاء. كل جمله من هذه الجمل لها دور في بناء الجسم وللتحكم في وظيفته. الحروف نسميها علميا بالأحماض النووية والكلمات هي التي تصنع الاحماض الامينية والجمل هي الجينات التي يصنع منها البروتينات ( التي تتكون من قطع من الاحماض الامينية) .
هناك أيضا مصطلح أخير مهم لكي نفهم تقنية كاسبر. وهو ما يعرف ب ” أر أن أي” (RNA). تقوم الخلية ( أي خليه كنت بشرية او خليه بكتيرية) بصنع البروتينات بقراءة تسلسل الحمض النووي ( الدي إن أي) لكن لغة الدي أن أي تعتمد على الأحماض النووية وهي لغة مختلفة عن لغة البروتينات و التي تعتمد على الأحماض الامينية. فلذلك هناك حلقة وصل يساعد في عمل الترجمة و هذا المركب هو (الأر أن أي) و هو تقريبا مطابق للدي إن أي الى حد كبير فهو عبارة عن حروف (احماض نووية) و هو يصنع عن طريق نسخ الدي أن أي. فاذا احتاج الجسم ان يصنع بروتين معين فانه ينسخ مقطع معين من الدي أن أي ( نسميه جين )الى نسخة من ( الأر أن أي) ثم بعدها ينتقل ( الأر أن أي ) الى مصنع البروتينات لفك الشفرة و صناعة البروتين المطلوب. لمزيد من شرح المبسط لأسس الوراثة راجع هذه الصفحة:
https://www.werathah.com/learning/introduction-genetics-arabic/
أجزاء كريسبر
لو نظرنا الى جهاز المناعة هذا لوجدناه عبارة عن عدة أجزاء.
الجزء الأول (كريسبر ): هو أرشيف لتخزين نسخ من شفرة الحمض النووي للفيروسات و هو ما يسمى بكريسبر و هو عبارة عن سلسلة من الحمض النووي للبكتيريا الأم بداخله الحمض النووي المنسوخ من الفيروسات الغازية و تفصل بين كل نسخه و أخرى مقاطع ثابته من الحمض النوي. و بجوار هذا الجزء جزء اخر يسمى كاس Cas)) (CRISPR-associated proteins) وهي تعني “البروتين المرتبط بكريسبر” و هو جين يصنع انزيم يعمل كمقص .
الجزء الثاني ( أر إن أي الدليل ) : عندما يهجم فيروس على البكتيريا فإنها تقوم بمراجعة أرشيف الفيروسات التي لديها في داخل كريسبر فاذا وجدت نسخة محفوظة لديها لهذا الفيروس فإنها تقوم بتصنيع نسخة من (الأر إن أي )لكي تساعد على التعرف على الفيروس المهاجم ثم تدمره. هذه النسخة ترتبط بنسخة أخرى من الار أن أي من جين اسمه تريسر فيكونان ما يعرف ب سي أر (crRNA). و هو بمثابة دليل و لذلك يطلق عليه أيضا أر أن أي الدليل ( Guide RNA)
الجزء الثالث (كاس) : عندما يتعرف (الأر إن أي الدليل )على الفيروس فانه يلتصق به لان نسخته مطابقه لنسخة الفيروس ،بعدها يبدأ البروتين المرتبط بكريسير ( كاس) بقص الحمض النووي للفيروس و الذي يتسبب بتدميره .
هناك أنواع مختلفة من البروتينات المرتبطة بكريسبر ( كاس) و لكن اشهرها هو ما يعرف بكاس9 Cas9)) و هو نظام المناعة الموجود في بكتيريا تسمى بالستربتوكوكس بيوجنس و هي البكتيريا التي كانت الدكتورة مانويل شاربنتغير مهتمة بدراستها.
كريسيبر كاداه
يمكن الان ان تتضح لك الصورة فأنزيم كاس9 ( Cas9) هو مقص كيميائي لقص للحمض النووي ، وكريسبر هي قطعة من تسلسل الحمض النووي يوجه هذا المقص الكيميائي للمكان الذي يجب ان يتم القص فيه. ولذلك فأي مختص يود ان يجري قص لجزء محدد من الحمض النووي عليه أن يقوم بصنع نسخة مماثله لهذا الجزء بصيغة (الأر أن أي) ويلصق فيها المقص الكيميائي كاس9. ثم يحقنها بداخل الخلية، فتبدأ هذه الاداة بالالتصاق بالمكان المطلوب وقصه! وحاليا يوجد برمجيات بسيطة لتصميم (الأر أن أي) ومن ثم طلبها عبر البريد من مختبرات متخصصة بمبالغ زهيدة وترسل خلال ايام. ويمكن تصميم أي نوع من حمض (الأر أن أي )حسب المكان المراد قصه كان ذلك جين معين او مجموعة من الجينات.
الان الامر المبدع والباهر في هذه التقنية هي إمكانية اصلاح الطفرات والأخطاء الموجودة في الجين او اضافه شيء له بعد عملية القص. ويتم هذا الامر باستغلال جهاز الصيانة الطبيعي والموجود في كل الخلايا. فهذا الجهاز يتولى مهمة إصلاح الاعطاب التي تصيب الحمض النووي. هناك طريقتان مشهورتان للإصلاح وكلاهما موجودة تلقائيا في الخلية:
– الأولى مهمتها إعادة الامر لوضعه السابق بدون أي اصلاح او تعديل.
– والطريقة الثانية بإمكانها الإصلاح بدون تعديل لكن لو اضيف لها نسخة أخرى من الجين او مقطع من الجين فإنها تقوم بأخذ هذه النسخة واستعمالها للإصلاح عن طريق عمل نسخ مشابهه لها و غرزها بداخل الجين فتصبح نسخة جديدة معدله. وتتعرف الخلية على مكان زرع النسخة الجديدة بمقارنتها بالنسخة الموجودة لديها فاذا كان بينها شبه كبير (حتى لو لم يكن متطابق) فإنها تقوم بإدخالها مكان نسختها القديمة. هذه الطريقة للإصلاح هي التي يعول عليها العلماء في اصلاح الطفرات المسببة للأمراض الوراثية، وأيضاً في عمل العديد من التغييرات زرع نسخ جديده في الحمض النووي في الحيوانات او النباتات وغيرها. هذه الأداة سهلة مهمة التعديل الجيني والتي كانت في السابق تحتاج الكثير من التخطيط الهندسي لكيفيه الوصول للجزء المراد تعديله وأيضا تكرار العملية على أكثر من خليه. كذلك الحال في انتاج حيوانات معدله وراثية تحاكي امراض معينه تصيب الانسان لكي يجرى عليها تجارب علاجية. فالعملية كانت تأخذ سنة الى سنتين من التخطيط وأحيانا النتائج غير مرضيه فيحدث ادخال التعديل في مكان خاطئ او لا يتم تعديل كل الخلايا و ما الى ذلك من الصعوبات.
سحبت تقنية كاسبر البساط من تقنيات أخرى للتعديل الجيني تسمى “نوكلييز أصابع الزنك” وأخرى تسمى “تالينت” التي استغرق تطويرها سنوات طويلة. فهذه التقنيات و التي تكلف 5 الاف دولار لكل عمليه تعتمد على تقنية البروتين و ليس على تقنية الحمض النووي (الار أن أي) و هذا هو الفرق! يقول الدكتور سكارنز، عالم الوراثة في معهد ويلكوم في بريطانيا : “أشعر بخيبة الأمل، ولكني أشعر أيضًا بالحماس”. د سكارنز قضى أغلب حياته المهنية كباحث في استخدام تقنية التعديل الجيني التي طرحت في منتصف الثمانينات بتعديل الخلايا الجذعية جينيا في الفئران بطريقة باهضه التكلفة وشاقة.
افاق علاجية وبحثية مستقبلية
فتحة هذه التقنية لتعديل الجينات افاق و أفكار و حتى تخيلات علمية لا حدود لها ،كان ذلك في مجال علاج الامراض الوراثية او اجراء البحوث على الحيوان في المختبرات او التعديل الوراثي للنبات و الحيوان.
استئصال الأمراض الوراثية :
في عام 2015 استخدم الدكتور ندرسون وزملاؤه بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في كمبريدج تقنية “كريسبر” في الفئران، بغرض تصحيح طفرة في جين يسبب مرض من أمراض التمثيل الغذائي يصيب الانسان و يسمى “التايروسينيميا Tyrosinemia و هذه الخطوة مبدئية قد يتلوها تجارب على شخص مصاب من البشر . ورغم ان عدد الخلايا التي نجح تغييرها لم يكن عالياً ( فقط 0.4% من الخلايا) و كان هناك بعض الصعوبات الفنية الا انها خطوة متفائلة في طريق يحتاج المزيد من التطوير.
خلال العامين الماضيين، تم انشاء شركات لتطوير العلاج الجيني باستخدام تقنية “كريسبر”. و قد ترى التجارب الإكلينيكية النور في الأعوام المقبلة ان لم يكن العام المقبل. و قد يبدأ بطريقة حقن مكونات “كريسبر” مباشرة في الأنسجة، مثل حقنها في شبكية العين، أو استخلاص خلايا من الجسم، و معالجتها في المختبر بتقنية كريسبر ثم إعادتها للجسم مرة أخرى او معالجة الخلايا الجذعية من الدم لعلاج أعراض معينة، مثل مرض فقر الدم المنجلي، أو الثلاسيميا.
انتاج حيوانات بها طفرات :
في السابق كان يتم انتاج بعض الحيوانات المعدلة وراثية لكي يتم القيام بأبحاث وراثية عليها. وفي كل مره يتم تعديل جين واحد فقط، اما حاليا وبهذه التقنية بالإمكان القيام بتعديل مجموعة من الجينات دفعه واحده. فبعض الامراض مثل امراض القلب مثلا و التي تكون بسبب طفرات متعددة في مجموعة من الجينات لم يكن بالإمكان دراستها سابقا لعدم و جود التقنية المناسبة لإنتاج حيوانات بها طفرات متعددة. كانت أيضا معضهم الحيوانات المنتجة هي فئران اما حاليا وبهذه التقنية فبالإمكان انتاج حيوانات أخرى بشكل اسهل مما سبق.
في مجال الأبحاث للأمراض الوراثية او التي لها عوامل وراثية كان العلماء يواجهون صعوبات في انتاج سلالات من الحيوانات معدله وراثية لكي تحاكي وتشابه بعض الامراض التي تصيب الانسان. وكان التركيز على الفئران نتيجة لصغر حجمها وسرعة توالدها. لكن الفئران ليست دائما هي الحيوان المناسب لإجراء التجارب عليها .فمثلا الامراض النفسية التي تصيب الانسان يصعب تجربتها على الفئران لصعوبة دراسة سلوكيات الفئران . كان هناك صعوبة في تعديل الحيوانات الأكبر حجما لبطيء توالدها و أيضا صعوبة تربيتها ناهيك عن الصعوبات التقنية التي تواجه العلماء لإنتاج حيوان واحد معدل وراثيا لدراسته و اجراء البحوث عليه. مع تقنية كريسبر اصبح الوضع افضل ،فبالماكن و بوقت قصير تعديل الجين المراد دراسته و انتاج حيوان يسهل دراسة حالتها النفسية كالكلب او القرد لكي يستفاد منها لعلاج الامراض النفسية التي تصيب الانسان مثل مرض التوحد و انفصام الشخصية و التي أظهرت الأبحاث ان أسبابها من الناحية الوراثية اكثر تعقيدا من المتوقع وانها تحدث بسبب تأثر جينات متعددة و بدرجات متفاوتة.
انتاج وزراعة الأعضاء:
في شهر أكتوبر 2015 قام باحثون في جامعة هارفرد بإنتاج نوع من الخنازير لديها 62 طفره جينيه .و التي تسمح نظريا للعلماء بإجراء تجارب على ذلك الحيوان بخصوص زراعة الأعضاء!
لكي فقط أوضح ماذا يقصدون بزراعة الأعضاء تخيل انهم يقوموا بتعديل في جينات حيوان ما وهو على شكل بويضة ملقحة لكي يكون يكون متوافق مع انسجة البشر ،ثم يأخذوا من ذلك الحيوان بعد ان يولد بعض الأنسجة او الأعضاء و استعمالها في العلاج البشري!
بالإمكان استعمال هذه التقنية على أي نوع من الخلايا او مجموعة محددة من الخلايا مثل خلايا القلب او الكلى او الرئة او خلايا جهاز المناعة مثل الخلايا اللمفاوية من نوع “تي T “والتي كان العلماء يجدوا صعوبة عالية في التحكم فيها. ولكي تتصور معي أيضا ماذا يعني هذا الحديث فاذكر لك انه في أحد المختبرات قام أحد الباحثين بإجراء تعديل على خليه معينه باستخدام هذه التقنية في علاج مرض غير وراثي وهو مرض الايدز عن طريق قص وحذف المدخل او الباب الذي يستعمله الفيروس للدخول للخلية فتم نظريا التخلص وطرد الفيروس. أيضا هنا بحث جاري لعمل تعديل للجين لمرض العمى بتعديل جين يؤثر على شبكية العين.
ثورة في صناعة الادوية:
لكن الثورة الهائلة المتوقعة لهذه التقنية تنبع في اهتمام شركات صناعة الادوية في استعمال هذه التقنية في انتاج علاجات غير مسبوقة وبشكل أسرع. فعن طريق احداث طفرات معينه لها علاقة بالأمراض المتعددة الأسباب (أي الامراض التي تحدث بسبب وجود استعداد وراثي مع تعرضهم لشيء ما في البيئة مثل امراض السكر والضغط وارتفاع الدهون والسمنة والربو وغيرها من الامراض الشائعة) وكذلك الأمراض الوراثية الاخرى ومن ثم تجربة علاجات معينه لها علاقة بهذه الطفرات. فقد يكون بالإمكان تصنيع علاجات حديثة و مبتكرة لم يكن بالإمكان عملها في وقت قصير بدون هذه التقنية. فسهولة احداث طفرة في جين معين في المختبر وتجربة علاج مناسب لها أصبح امراً ميسوراً ويختصر السنوات والأشهر الطويلة من العمل المخبري.
الحث الجيني و استئصال الامراض الوبائية :
في شهر مارس عام 2015 نشر بحث من جامعة كاليفورنيا ساندييجو على ذبابة الفواكه (فروت فلاي) تشرح طريقة اسمها تسلسل التفاعلات لإحداث الطفرات “الحث الجيني”. وهي طريقة لزرع طفرة في كلا نسخ الجين وليس في نسخة واحده فقط و بشكل تلقائي. وهذا يعني انه هذه الطريقة سوف تنتج سلالات معدل بالكامل من هذه الحشرات ، و قد يسبب هذا الامر خلل في التوازن البيئي لو تسربت من المختبر .و ولكن هذه الطريقة في نفس الوقت قد تستعمل لاستئصال الملاريا او بعض الامراض التي تنقلها الحيوانات و الحشرات. كان البحث مثيراً جدا ولكنه أيضاً فتح تخوفات لا تقل عن الآمال و تعكس قوة هذه التقنية في تغيير تسلسل الحمض النووي للجينات لمكافحة الامراض الوبائية بإنتاج بعوض معدل جينيا لكي يكسر حلقة انتشار وباء الملاريا الذي يحصد أرواح مئات الالاف من البشر سنوياً و الذي استعصى على العلماء و الباحثين استأصله بطرق اقل خطورة على البيئة.
تقنية كريسبر في النبات والصناعة:
تقنية كريسبر من المؤكد ستتجاوز كل توقعاتنا بكثير لأن الكثير من الصناعات تعتمد الآن على الهندسة الوراثية. وقد بدأ الباحثون فعلياً باستخدام كريسبر لتطوير تقنية الوقود الحيوي بتحوير بعض النباتات لإنتاج أفضل. وكذلك تعديل و تصنيع انزيمات جديدة و اكثر فاعليه للأسواق الصناعية كاستخدامها في منظفات الملابس مثلا، ومعالجة المياه إعادة استعمال الورق. كذلك في الزراعة، فهناك توجه لبعض الشركات لاستخدام كريسبر لجعل المحاصيل أكثر مقاومة للآفات والجفاف، بدون استخدام الطرق القديمة في التعديل التي واجهتها مشاكل تقنية معقدة. كذلك هناك شركات عملاقة في التصنيع الغذائي تتعاون مع بعضها البعض في مجال التعديل الجيني باستعمال تقنية كاريسبر (كشركة دوبونت و شركة دودنا و كاريبو للعلوم البيولوجية) لإنتاج ذرة و قمح معدل وراثياً قد تصل للأسواق في غضون خمس سنوات. كذلك مربوا الحيوانات من الشركات العملاقة فقد تقوم بتسخير هذه التقنية لإنتاج حيوانات ذات كتلة عضلية أكبر واللحم اكثر طراوة و بشكل اسرع في عملية التهجين مقارنة بالطرق القديمة. ايضا الشركات التي تهتم بالصناعة الغذائية مثل شركة دانون للألبان قامت بتصنيع سلالات من البكتيريا التي تنتج اللبن الزبادي بطعم أكثر لذه ويبدو ان المنتجات الغذائية الأخرى كالأجبان والخبز قد تسخر هذه التقنية ايضا للاستفادة منها لتحسين وتطوير الصناعة الغذائية.
مخاوف تحتاج الاهتمام
رغم إمكانيات تقنية “كريسبر” الواعدة، يشعر العلماء بالقلق من إيقاع التطور السريع في هذا المجال، كونه لا يعطي الوقت لمناقشة المخاوف الأخلاقية، وعوامل السلامة التي قد تطرأ خلال هذه التجارب. فبعض العلماء يرغبون في إجراء المزيد من الدراسات حول احتمال أن يتسبب استخدام هذه التقنية في إنتاج تعديلات جينية شاذة أو خطيرة، بينما يشعر آخرون بالقلق من تسبب الكائنات المعدلة وراثيًّا في إحداث اضطرابات أو انهيارات في توازن الأنظمة البيئية كلها.
تفشي وانتشار الطفرات:
وصف احد الباحثين طريقة لإنتاج صنف من الفئران مصابة بسرطان الرئة عن طريق احداث طفرة في جين محدد و ذلك باستخدام تقنية كريسبر وإدخال هذا الجين المعدل الى رئة الفأر عن طريق فيروس يحمل هذا الجين .هذا الطريقة سوف تسرع في عمل الأبحاث المتعلقة بسرطان الرئة لاكتشاف علاج شافي لهذا المرض في الانسان. و مع ان هذه الطريقة تعتبر ثورة حقيقة في الأبحاث الا ان علينا ان نفكر و نضع التشريعات و التنظيمات و الاحتياطات التي تمنع انتقال هذا الفيروس الذي يحمل هذا الجين الخطير الى الانسان من دون قصد نتيجة لعدم عمل احتياطات بداخل المختبر .
ويحذِّر عدد من العلماء للحاجة لإجراءات كثيرة قبل استخدام تقنية “كريسبر” بسلامة وفعالية، كما يحتاج العلماء إلى زيادة فعالية تقنية التعديل الجيني، والتأكد ـ في الوقت نفسه ـ من عدم إحداث أي تغييرات في جينات أخرى بالخطأ، قد تؤدي إلى أضرار، أو عواقب وخيمة على الصحة. فإذا مثلا قام احد العلماء بعرض علاج لمرض فقر الدم المنجلي في إحدى الخلايا الجذعية باستعمال هذه التقنية فمن المطلوب ان يستطيع المختص ان يخبر المريض عن الأضرار الأخرى التي ربما تحدث لو حدث القص و التعديل في أماكن أخرى غير مقصودة و هذه المعلومات و المخاطر ليست متوفرة لكي يخبر المختص المريض عنها نتيجة لعدم عمل بحوث مستفيضه في هذا المجال .
تغيير في التوازن البيئي
كذلك البحث الذي ذكرنا على ذبابة الفواكه من جامعة كاليفورنيا فانه جعل هناك خطورة حقيقية في مخاطر انتقال هذه الحشرات المعدلة وراثياً خارج المختبر إذا لم توضع ضوابط احترازية وقوانين او إرشادات تلتزم بها المراكز البحثية لكي لا تحدث أمور لا تحمد عقباها. وقد شكَّل المجلس الوطني الأمريكي للبحوث لجنة لمناقشة تجارب الحث الجيني ووضع ضوابط و نتوقع ان تظهر تشريعات في هذا المجال قريباً.
تغيير في الصفات بدون ضابط اخلاقي
قام عالم من عالم بإجراء بحث على فئران ذات اللون الأسود وقام بتغيير لونها عن طريق عمل طفرة في الجين الذي يتحكم باللون وولد فأر بلون فاتح. وهذا التغيير ليس فقط خاص بهذا الفأر بل حتى ذريته عكس اجدادها ذات اللون الأسود! هذا بلا شك سيفتح نقاش أخلاقي كبير لو اجري على الانسان، وأنفتح باب تعديل هذه الجينات والتي تتحكم بالشكل واللون و غيرها من الصفحات الجسدية او حتى النفسية ! الامر تجاوز ان يكون امر غير ممكن او خيال علمي الى حقيقة عندما قام علماء من الصين بتعديل جين خاص بمرض من امراض الدم الخطيرة و قاموا بهذا التعديل على بويضة ملقحة ،ليثبتوا انه بالإمكان استعمال هذه التقنية .و رغم انه لم تبقَ أي من الأجنة التي استخدموها حية، وفشلت الأبحاث في الوصول إلى ولادة ناجحة، ولكن التقرير أثار جدلًا أخلاقيا حادا حول مدى استخدام تقنية “كريسبر” في إجراء تغييرات وراثية في الجينوم البشري ،و الذي اثار عاصفة من النقاش تمخض بعده عقد لقاء علمي دولي في بريطانيا أواخر عام 2015 لتدارس الأمر بدون الخروج بتوصيات واضحة.ولذلك ظهر علماء حتى ممن شاركوا بنشر أبحاث على تقنية كريسبر مثل الدكتور تشيرش ممن يدعوا الى تحريم استعمال هذه التقنية و وضوع قانون منع كامل على استعمالها على البويضات الملقحة و الاجنة الى ان يتم وضع تنظيم لهذه للعملية خوفا من حدوث أمور خطيرة .
الحاجة لتنظيم لهذه التقنية
من جهة أخرى فهناك فريق اخر يدعوا لوضع تنظيم ولكن بدون ادخال قوانين التحريم و التقييد المبالغ فيه لكي لا تجهض هذه التقنية في مهدها عن طريق تحريمها او تأخير اجراء البحوث عليها لعدة سنوات .الحاجة بلا شك لنشر إرشادات تنظيميه لهذه التقنية و عدم تركها تتأرجح بين الرفض التحريم و القبول بدون ضوابط او تنظيم. و لذلك اقترح بعض العلماء لعمل مؤتمر يجتمع فيه علماء الوراثة الجزئية و الحيوية و الأطباء و القانونيين و المختصين في اخلاقيات الطب لوضع هذه الارشادات كما عمل في مؤتمر اسيلومار في كليفورنيا عام 1975 ابان بدايات ثورة الهندسة الوراثية و التي كان لهذه الارشادات عظيم الأثر في دعم الأبحاث بشكل امن .بعض الباحثين يرون أن هناك دروسًا قد تمر بها تقنية كاسبر كما مرت بها التقنيات الأخرى سابقا، و التي أثارت شعورًا كبيراً بالسعادة في بداياتها، ثم قلق، فإحباط، عندما بدأت تظهر المتاعب كما حدث للعلاج الجيني في التسعينيات ، عندما سقطت التجارب الاكلينيكية في العلاج الجيني سقطة قويه عندما حدث امر لم يحسب له حساب أدَّى إلى وفاة شاب بسبب التهاب فيروسي استخدم للحقن الجيني؛ فتدهورت الأمور بعدها، وخرجت عن السيطرة و توقفت الأبحاث في ذلك المجال لعدة سنوات، ولم تبدأ في التحسُّن إلا مؤخرًا.
لا يزال مجال تقنية “كريسبر” واعدًا، وسيكون أمامنا سنوات قبل أن نستوعب إمكانياتها فما زلنا في مرحلة الاستكشاف، وتحتاج هذه الأفكار إلى فترة للنضج والتطور”. هناك تخوفات مقبولة و تحتاج منا ان نأخذها محمل الجد و وقد يكون لهذه التقنية دور كبير في علاج الأمراض التي تصيب البشر.
الخاتمة
هذه الثورة في اكتشاف تقنية كريسبر و التي هي جهاز مناعي بدائي في البكتيريا يجعلك لا تستطيع ان تتصور ان تجد مختبراً بحثياً في السنوات القصيرة القادمة لا يستعملها او يستفيد منها لكي يجري الابحاث و التجارب بشكل اكثر دقة و سرعه مما كان يأمله لو لم تكتشفه هذه الطريقة الرائعة .لا شك ان كل شخص كان عامي او عالم او باحث او صحفي او مثقف ينظر لهذه التقنية بمنظور خاص به يعكس علمه و خبرته في الحياة و في مجال عمله و ايضاً مواقفه المسبقه من الأبحاث العلمية و العلماء .فهناك المتخوف ،و هناك المحلق بأفكاره و هناك المتوازن و هناك من لا يهتم بهذه الأمور كلها! لكن من المهم ان يكون الطرح والنقاش حول تقنية كريسبر طرحا متوازنا تأخذ في الاعتبار كل الجوانب. فمن لديه تخوف في إساءة استعمال هذه التقنية في امور تتعارض مع اخلاقيات و اسس انسانية يجب السماع له و تشريع انظمة تنظم و تشرع لاستعمال امن و مفيد للبشرية. في نفس الوقت على المشرعين والمتخوفين ان لا يشرعوا انظمة وقوانين مكبله لأيدي العلماء تجهض هذه الانطلاقة و تحد من امكانية استعمالها لعلاج الامراض ورفاهية البشر بتكاليف اقل و بشكل اسرع من لو ترك الامر لتغير بيئي بطيء قد يأخذ سنوات عديدة، قد يخسر فيها الأنسان ارواح كثيرة او يتكبد خسائر مالية باهضه كان بالإمكان تفاديها لو استعملت تقنية كريسبر.
هذه التقنية في نظري سوف تغير وجه وخريطة العلاج للأمراض الوراثية و غير الوراثية و ستمتد الى اكبر مما تخيلنا في مجال صناعة الادوية و النبات و الحيوان و ليس خطئيه اذا ما وضع لها تنظيم علمي و أخلاقي و الله اعلم.
تأليف:
عبدالرحمن فايز السويد
استشاري الوراثة الإكلينيكية وطب الأطفال
مدينة الملك عبدالعزيز الطبية بالحرس الوطني-الرياض
21 مارس 20016
فديوهات مفيدة
https://www.youtube.com/watch?v=ZJ-ChS9roQ0#t=14
https://www.youtube.com/watch?v=SuAxDVBt7kQ
Trackbacks/Pingbacks