مجموعة الدعم الأسري للأنيميا المنجلية والثلاسيميا

لدعم مرضى وأسر الأنيميا المنجلية والثلاسيميا

الأنيميا المنجلية

السعادة للشيخ على الطنطاوي

                                          السلام عليكم ورحمة الله و بركاتة
** السعادة **
للشيخ علي الطنطاوي
(ت 1420هـ – 1999م) نشر عام 1948

يحمل الرجلان المتكافئان في القوة الحمل الواحد، فيشكو هذا ويتذمر؛ فكأنه حمل حملين، ويضحك هذا ويغني؛ فكأنه ما حمل شيئاً.ويمرض الرجلان المتعادلان في الجسم المرض الواحد، فيتشاءم هذا، ويخاف، ويتصور الموت، فيكون مع المرض على نفسه؛ فلا ينجو منه، ويصبر هذا ويتفاءل ويتخيل الصحة؛ فتسرع إليه، ويسرع إليها.

ويُحكم على الرجلين بالموت؛ فيجزع هذا، ويفزع؛ فيموت ألف مرة من قبل الممات، ويملك ذلك أمره ويحكِّم فكره، فإذا لم تُنجه من الموت حيلته لم يقتله قبل الموت وَهْمُهُ.

هذا الجزء الاوسط من المقال

و هذا هو المقال بالكامل
——————-

كنت أقرأ في ترجمة ( كانت ) الفيلسوف الألماني الأشهر أنه كان لجاره ديك قد وضعه قبالة مكتبه ، فكلما عَمِدَ إلى شغله صاح الديك ، فأزعجه عن عمله ، وقطع عليه فكره.

فلما ضاق به بعث خادمه ليشتريه ، ويذبحه ويطعمه من لحمه
ودعا إلى ذلك صديقاً له ، وقعدا ينتظران الغداء
ويحدِّثه عن هذا الديك ، وما كان يلقى منه من إزعاج ، وما وجده بعده من لذة وراحة ؛ ففكر في أمان ، واشتغل في هدوء ، فلم يقلقه صوته ، ولم يزعجه صياحه.
ودخل الخادم بالطعام معتذراً أن الجار أبى أن يبيع ديكه ، فاشترى غيره من السوق ، فانتبه ( كانت) فإذا الديك لايزال يصيح !

فكرت في هذا الفيلسوف العظيم فرأيته قد شَقِي بهذا الديك لأنه كان يصيح ، وسَعِدَ به وهو لايزال يصيح .

ما تبدّل الواقع !
ما تبدّل إلا نفسه !

فنفسه هي التي أشقته لا الديك !
ونفسه هي التي أسعدته !

وقلت : ما دامت السعادة في أيدينا فلماذا نطلبها من غيرنا ؟

ومادامت قريبة منا فلماذا نبعدها عنّا ؛ إذ نمشي من غير طريقها ، ونلجها من غير بابها ؟
إننا نريد أن نذبح (الديك) لنستريح من صوته ، ولو ذبحناه لوجدنا في مكانه مائة ديك ؛ لأن الأرض مملوءة بالدِيَكة ، فلماذا لا نرفع الديكة من رؤوسنا إذا لم يمكن رفعها من الأرض ؟ لماذا لا نسدُّ آذاننا عنها إذا لم نقدر أن نسدّ أفواهها عنّا ؟ لماذا لا نجعل أهواءنا وفقَ ما في الوجود إذا لم نستطع أن نجعل كل مافي الوجود وفق أهوائنا؟

أنام في داري فلا توقظني عربات الشارع وهي تزلزل بسيرها الأرض ، ولا أصوات الباعة وهي ترعد في الجو ، ولا أبواق السيارات وهي تُسمع الموتى ، وتوقظني همسة في جو الدارضعيفة ، وخطوة على ثراها خفيفة ، فإذا نمت في الفندق لم يوقظني شيء وراء باب غرفتي ، فإذا كان نومي في القطار لم يزعجني عن منامي حديث جيراني إلى جنبي ، ولا صوت القطار وهو يهتز بي ؛ فكيف احتملت هنا مالم أكن أحتمله هناك ؟ وآلمني هناك مالم يؤلمني هنا ؟.

ذلك لأن الحسّ كالنور ، إن أطلقته أضاء لك ما حولك فرأيت ما تحب وما تكره ، وإن حجبته حجب الأشياء عنك ، فأنت لا تسمع أصوات الشارع مع أنها أشد وأقوى ، وتسمع همس الدار وهو أضعف وأخْفَت ؛ لأنك وجَّهت إلى هذا حسَّك ، وأدخلته نفسك ؛ فسمعته على خُفُوته كما ترى في الضياء صغائر الأشياء ، وأغْفَلتَ ذلك وأخرجته من نفسك ، فلم تَسْمَعه على شدته ، وخَفِي عنك كما تختفي في الظلام عظائمُ الموجودات.

فلماذا لا تصرف حسّك عن كل مكروه ؟ إنه ليس كل ألم يدخل قلبك ، ولكن ما أدخلته أنت برضاك ، وقَبِلتَه باختيارك ، كما يُدْخِل الملك العدوّ قلعته بثغرة يتركها في سورها ، فلماذا لا نقوِّي نفوسنا حتى نتخذ منها سوراً دون الآلام ؟

إني أسمعكم تتهامسون، تقولون : “فلسفة وأوهام” ؟نعم ، إنها فلسفة ،ولكن ليست كل فلسفة هذيانا ، وإنها أوهام

ولكن الحياة كلها أوهام تزيد وتنقص ، ونسعد بها ونشقى ، أو شيء كالأوهام.

يحمل الرجلان المتكافئان في القوة الحمل الواحد ، فيشكو هذا ويتذمر ؛ فكأنه حمل حملين ، ويضحك هذا ويغني ؛ فكأنه ما حمل شيئًا.

ويمرض الرجلان المتعادلان في الجسم المرض الواحد ، فيتشاءم هذا ، ويخاف ، ويتصور الموت ، فيكون مع المرض على نفسه ؛ فلا ينجو منه ، ويصبر هذا ويتفاءل ويتخيل الصحة ؛ فتسرع إليه ويسرع إليها .

ويُحكم على الرجلين بالموت ؛ فيجزع هذا ، ويفزع ؛ فيموت ألف مرة من قبل الممات ، ويملك ذلك أمره ويُحْكِم فكره ، فإذا لم تُنْجه من الموت حيلته لم يقتله قبل الموت وَهْمُهُ.

وهذا ( بسمارك ) رجل الدم والحديد ، وعبقري الحرب والسِلْم ، لم يكن يصبر عن التدخين دقيقةً واحدة ، وكان لا يفتأ يوقد الدّخينة من الدخينة نهاره كله فإذا افتقدها خلَّ فكرُه ، وساء تدبيره.

وكان يوماً في حرب ، فنظر فلم يجد معه إلا دخينة واحدة ، لم يصل إلى غيرها ، فأخَّرها إلى اللحظة التي يشتد عليه فيها الضيق ويعظم الهم ، وبقي أسبوعاً كاملاً من غير دخان ، صابراً عنه أملاً بهذه الدخينة ، فلما رأى ذلك ترك التدخين ، وانصرف عنه ؛ لأنه أبى أن تكون سعادته مرهونة بلفافة تبغ واحدة .

وهذا العلامة المؤرخ الشيخ الخضري أصيب في أواخر عمره بِتَوَهُّم أن في أمعائه ثعباناً ،فراجع الأطباء ، وسأل الحكماء ؛ فكانوا يدارون الضحك حياءً منه ، ويخبرونه أن الأمعاء قد يسكنها الدود ، ولكن لا تقطنها الثعابين ، فلا يصدّق ، حتى وصل إلى طبيب حاذق بالطب ، بصير بالنفسيات ، قد سَمِع بقصته ، فسقاه مُسَهِّلاً وأدخله المستراح ، وكان وضع له ثعبانًا فلما رآه أشرق وجهه ، ونشط جسمه ، وأحس بالعافية ، ونزل يقفز قفزًا ، وكان قد صعد متحاملاً على نفسه يلهث إعياءًا ، ويئن ويتوجع ، ولم يمرض بعد ذلك أبداً .

ما شَفِي الشيخ لأنَّ ثعباناً كان في بطنه ونَزَل ، بل لأن ثعباناً كان في رأسه وطار؛ لأنه أيقظ قوى نفسه التي كانت نائمة ، و إن في النفس الإنسانية لَقُوىً إذا عرفتم كيف تفيدون منها صنعت لكم العجائب .

تنام هذه القوى ، فيوقظها الخوف أو الفرح

أَلَمْ يتفق لواحد منكم أن أصبح مريضاً خامل الجسد ، وَاهِيَ العزم لا يستطيع أن ينقلب من جنب إلى جنب ، فرأى حيَّة تُقبل عليه ، ولم يَجِدْ مَنْ يدفعها عنه ، فوثب من الفراش وَثْبًا ، كأنه لم يكن المريض الواهن الجسم ؟ أو رجع إلى داره العصر وهو ساغب لاغب ، قد هَدَّه الجوع والتعب ، لا يبتغي إلا كُرْسِيَّـاً يطرح نفسه عليه ، فوجد برقية من حبيب له أنه قادم الساعة من سفره ، أو كتاباً مستعجلاً من الوزير يدعوه إليه؛ ليرقي درجته ، فأحسَّ الخفة والشبع ، وعدا عَدْواً إلى المحطة ، أو إلى مقر الوزير ؟
.
.
هذه القوى هي منبع السعادة تتفجر منها كما يتفجر الماء من الصخر نقيًّا عذبًا ، فتتركونه وتستقون من الغدران الآسنة ، والسواقي العكرة !

يا أيها القراء : إنكم أغنياء ، ولكنكم لا تعرفون مقدار الثروة التي تملكونها ، فترمونها ؛ زهداً فيها ، واحتقاراً لها

يصاب أحدكم بصداع أو مغص ، أو بوجع ضرس ، فيرى الدنيا سوداء مظلمة ؛ فلماذا لم يرها لما كان صحيحاً بيضاء مشرقة ؟ ويُحْمَى عن الطعام ويمنع منه ، فيشتهي لقمة الخبز ومضغة اللحم ، ويحسد من يأكلها ؛ فلماذا لم يعرف لها لذتها قبل المرض ؟

لماذا لا تعرفون النعم إلا عند فقدها ؟

لماذا يبكي الشيخ على شبابه ، ولايضحك الشاب لصباه ؟
لماذا لا نرى السعادة إلا إذا ابتعدت عنَّا ، ولا نُبْصِرها إلا غارقة في ظلام الماضي ، أو مُتَّشِحةً بضباب المستقبل ؟كل يبكي ماضيه ، ويحن إليه ؛ فلماذا لا نفكر في الحاضر قبل أن يصير ماضيًا ؟

أيها السادة والسيدات :
.
إنا نحسب الغنى بالمال وحده ، وما المال وحده ؟

ألا تعرفون قصة الملك المريض الذي كان يُؤتى بأطايب الطعام ، فلا يستطيع أن يأكل منها شيئًا ، لمَّا نَظَر من شباكه إلى البستاني وهو يأكل الخبز الأسمر بالزيتون الأسود ، يدفع اللقمة في فمه ، ويتناول الثانية بيده ، ويأخذ الثالثة بعينه ، فتمنى أن يجد مثل هذه الشهية ويكون بستانياً؟
.
فلماذا لا تُقَدِّرون ثمن الصحة ؟ أمَا للصحة ثمن ؟من يرضى منكم أن ينزل عن بصره ويأخذ مائة ألف دولار؟ من يبيع قطعة من أنفه بأموال الشربتلي ؟

أما تعرفون قصة الرجل الذي ضلّ في الصحراء ، وكاد يهلك جوعًا وعطشًا ، لما رأى غدير ماء ، وإلى جنبه كيس من الجلد ، فشرب من الغدير ، وفتح الكيس يأمل أن يجد فيه تمرًا أو خبزًا يابسًا ، فلما رأى ما فيه ، ارتد يأسًا ، وسقط إعياءً .

لقد رآه مملوءً بالذهب !

وذاك الذي لقي مثل ليلة القدر ، فزعموا أنه سأل ربه أن يحوّل كل ما مسّته يده ذهبًا ، ومسّ الحجر فصار ذهبًا ؛ فكاد يجنّ من فرحته ؛ لاستجابة دعوته ، ومشى إلى بيته ما تسعه الدنيا ، وعمد إلى طعامه ؛ ليأكل ، فمس الطعام ، فصار ذهبًا وبقي جائعًا ، وأقبلت ابنته تواسيه ، فعانقها فصارت ذهبًا ، فقعد يبكي يسأل ربه أن يعيد إليه بنته وسُفرته وأن يبعد عنه الذهب !

و روتشلد الذي دخل خزانة ماله الهائلة ، فانصفق عليه بابها ، فمات غريقًا في بحر من الذهب

                                                            يا سادة

لماذا تطلبون الذهب وأنتم تملكون ذهبًا كثيرًا ؟ أليس البصر من ذهب ، والصحة من ذهب ، والوقت من ذهب ؛ فلماذا لا نستفيد من أوقاتنا ؟ لماذا لا نعرف قيمة الحياة ؟
فيا سادة : إن الصحة والوقت والعقل ، كل ذلك مال ، وكل ذلك من أسباب السعادة لمن شاء أن يسعد .

وملاك الأمر كله ورأسه الإيمان ،الإيمان يشبع الجائع ، ويدفئ المقرور ، ويغني الفقير ، ويُسَلِّي المحزون ، ويُقوِّي الضعيف ، ويُسَخِّي الشحيح ، ويجعل للإنسان من وحشته أنسًا ، ومن خيبته نُجْحًا .

وأن تنظر إلى من هو دونك، فإنك مهما قَلّ مُرَتّبك ، وساءت حالك أحسن من آلاف البشر ممن لا يقل عنك فهمًا ولا علمًا ، وحسبًا ونسبًا .

وأنت أحسن عيشة من عبد الملك بن مروان ، وهارون الرشيد ، وقد كانا مَلِكَي الأرض.

فقد كان لعبد الملك ضرس منخورة تؤلمه حتى ما ينام منها الليل ، فلم يكن يجد طبيباً يحشوها ، ويلبسها الذهب ، وأنت تؤلمك ضرسك حتى يقوم في خدمتك الطبيب .

وكان الرشيد يسهر على الشموع ، ويركب الدواب والمحامل وأنت تسهر على الكهرباء ، وتركب السيارة ، وكانا يرحلان من دمشق إلى مكة في شهر وأنت ترحل في أيام أو ساعات .

                                                       فيا أيها القراء

إنكم سعــداء ولكن لا تدرون ، سعداء إن عرفتم قدر النعم التي تستمتعون بها ، سعداء إن عرفتم نفوسكم وانتفعتم بالمخزون من قواها ، سعداء إن سددتم آذانكم عن صوت الديك ، ولم تطلبوا المستحيل ، فتحاولوا سدّ فمه عنكم ، سعداء إن طلبتم السعادة من أنفسكم لا مما حولكم .

سعداء إن كانت أفكاركم دائماً مع الله ، فشكرتم كل نعمة ، وصبرتم على كل بَلِيَّة ، فكنتم رابحين في الحالين ، ناجحين في الحياتين

( نُشرت المقالة في سنة 1948 م ، وهي في كتاب (صور وخواطر) ص 17-26 للشيخ علي الطنطاوي رحمه الله )

المـصــدر

اترك تعليقاً